مشيت شاردًا الذهن ، ناظراً الى ساعتي، تلك الساعة التي أعادتني زمن للوراء، رباه …كم مر من وقت ، كم عمر أتى ولم أشعر به ، دق قلبي مع دقات الساعة ، تك تك تك.
دقائق تفصل الوداع ، هدانى إياها أبي يوم نتيجة الثانوية ، كان واثقاً من نجاحى ، قال لى يومها أنه أنتظر هذه اللحظة منذ سنوات ، أعلم أنك أردت هذه الساعة ولكن لم تسمح الظروف ان أشتريها لك ، وقد صممت السنة الماضية ان أدخر من مرتبي الشهرى مبلغا لكى ُأهديك إياها اليوم ، والحمدلله لم يخب ظنى بالله وبك ، أحتضنته كثيراً يومها ، وبكيت أكثر، لم أكن أعلم أنه يحبنى لهذا الحد، نظر فى عيني نظرة لن أنساها ما حييت وكأنه يقول لى أستمر ،وكأنه يقول ستصل ، وكأنه يقول لى الوداع ، وكان الوداع ….
توفى بعدها بأسابيع ، فجأة ، دون تعب او مرض ، كان يصلى وتوفى ، عجيبة تلك الحياة ، تفاجأنا بشكل غريب بأوقات غريبه ، قررت أن أرتدي هذه الساعة ما حييت ، ستكون رفيقتي ، كما كان ابي في حياته ، لقد كان أكثر بكثير من أب ، لقد كان صديق ، كان لديه فقط مشكلة صغيرة في إبداء المشاعر ، ولكنى أتفهم أن تلك مشكلة مجتمعية ، معظم الآباء ذلك الوقت ظنوا أن إظهار المشاعر بصورة واضحة عيب ، لم أبكى يوم وفاته ، احتضنت صورته ونمت ، وكأنه حقا يحتضني ، اطمأننت بوجوده حولي ،واطمأننت أنه بإذن الله في مكان أفضل بكثير من الذى نحن فيه الآن …..
ارتديتها اول يوم جامعة ، وكانت حينها “اخر موضة” كان الجميع ينظر إلى باستغراب ، فملابسي وهيئتي لا توحى بانني قادر على شراء ساعة كهذه ، ولكنى لم أهتم ، ولم أستمع لهرائهم ، رغم ان هناك شخصا استفزني بهمسه أنى لابد وأنى سرقتها من شخص ما ، كنت على شفا حفرة من أن أذهب اليه وأضربه ، ولكنّى تمالكت نفسي ، فقد اتخذت قرارًا أنى سأركز على مستقبلي وأترك لهم تلك الحركات الصبيانية ، وقد كان.
تخرجت بتقدير جيد جدا ، وكان لى مكاناً فى السلك الجامعى ولكن كالعادة ذهب لأحد أبناء الأساتذة الكبار ، بالطبع كانت معى فى حفل التخرج ، بدأت أن تقدم قليلاً ولكن ذلك يزيدها جمال ورونق … كلما قدمت كلما أحببتها أكثر وأكثر ، تقدمت لعده وظائف ولكن للأسف الحظ لم يحالفنى فى المرة الأولى ، ولا الثانية ولا الثالثة ولا حتى الرابعة، ولحسن الحظ حالفنى فى الخامسة ، رباه …. كم أن الله بنا رحيم وكريم.
كنت قد بدأت أصاب بإحباط شديد بعدما رفضونى فى المرات السابقة ، ولكنى الآن أسجد لله شكراً ، فلولا ذلك لم أكن أبداً لأقابل حب العمر، تؤام الروح التى طالما بحثت عنها ولم أجد حتى من تقترب منها ، أما هى …. فشدتنى منذ النظرة الأولى ، لم أكن بالطبع من المؤمنين بالحب من النظرة الأولى ، ولكنى لم أكن أفكر فى أى شئ سوى أن أتعرف عليها أكثر وأكثر ، دعوت الله ان أُقبل فى هذه الوظيفه فقط لأنها هناك.
قبلوني ولله الحمد ، بالطبع كنت أرتدى ساعتي التي احببتها اكثر واكثر حينما أبدت إعجابها بها ، كانت موظفه الاستقبال التي استلمت منا الأوراق ، قالت وأنا أُسلمها أوراقي أنها تحب هذا النوع من الساعات ، تقربنا من بعضنا البعض أكثر وأكثر بحكم الزمالة ، وبدأت نظراتي تفضحني ، وبدت عليها هي الأخرى اللهفة وضربات القلب السريعة كلما رأتني ، رباه كم كان ذلك يسعدني ، ولا زال.
لازلت انظر لها واشعر بكل شيء كأنه للمرة الأولى حتى بعد كل هذه السنوات، كانت ساعتي الرفيقة في يدي حينما ذهبت لأتقدم اليها ، بالطبع رفضني والدها في المرة الأولى ، ولم استغرب ، فأنا شاب في بدايات حياتي وليس لدى ما يكفى لتعيش كما تعيش فى بيت والدها.
تقدمت للمرة الثانية، بعدما عملت عملين إضافيين ليصبح لدى الحد الأدنى من المعايير التي وضعها لي والدها ، وقبلني هذه المرة وأحبني ، رأى أنسان مسؤول أحب ابنته حد الجنون ، وافق وشعرت حينها ان العالم كله ملك يدي ، حلم عمرى الذى تمنيته سيصبح ملكي أخيرا .
مرت ثلاث سنوات جهزت فيهم كل شيء للزواج ، كنت أدخر كل صغيرة وكبيرة لأبنى لها منزل احلامها ، ولم تكن هي متطلبة على الأطلاق ، بل رضيت بالقليل ، بأقل القليل ، كانت دائما تقول أن الله سيوسع رزقنا بأذنه واننا لازلنا في الخطوات الأولى في الحياه.
وجاء يوم ولادتي الثاني، يوم زواجي ، لمّعت ساعتي رفيقتي، عايرني أصدقائي ، سخروا منى ، كيف لك ان ترتدى هذه الساعة القديمة في يوم كهذه ، حتى ان أحدهم قال بسخرية قل انك لا تستطيع شراء واحدة جديدة لكنت أهديتك واحده ، لم ألتفت لهم ، ولم أعرهم أي اهتمام ، هي فقط التي ابتسمت بحنان حينما وجدتها في يدي لأنى حكيت لها تعلقي بها.
شعرت بها حول يدي وكأن أبي معى ، يحتضنى ويقف بجوارى ، مع كل ابتسامة ورقصه رأيته حولى ، كم أفتقده وأشتاقه ، كم أننى حزين على فراق هديتك يا ابى ، اه من القهر والظلم والذل ، اه من ايام تتبدل فيها الأحوال ، لم أصدق أننى سأقف هذه الموقف.
ترقيت بعد زواجي، وبدأت آخذ محاضرات و كورسات انمى بها عملي ، وجاء وجه ابنتي الأولى علينا بكل خير ، فقد افتتحت شركتي وحققت نجاحا لا بأس به ، ليس باهرا ولكنه على الأقل نجاح ، بالطبع لم امنع زوجتي من عملها مثلما فعل أغلب اصدقائي بعد الزواج ، ظللت بجوارها وظلّت بجواري ، مررنا بلحظات كثيرة من الضعف ومن القوة ، وبفضل لله صرنا من المرتاحين ماديا.
كبرت الشركة وأصبحت من الأوائل في مجالها ، وترقت زوجتي عده مرات وحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه، أصبح لدينا اربع أبناء ، ولدان وابنتان ، هما كل الحياه بالنسبة لنا ، ربيناهم منذ اليوم الأول على الاستقلالية ، على ان يكون لهم شخصية مستقلة مفكرة ، ان لا يقبلوا ان يكونوا مجرد تابعين ، وأصبحوا بالفعل كذلك ، لكل منهم حياه وفكر مختلف ، كم أنا فخور بهم.
والآن فترة الأختبار الربانى ، خسرت شركتى الكثير والكثير ، وصفت الشركة الأولى التي عمل بها الكثير من الموظفين من بينهم زوجتي التي شخصها الأطباء بمرض نادر لا يعلم له أحد سببا ، وعلاجه يكلف الالاف شهريا ، والأفضل لها ان تسافر، أصبحت لا أدرى كيف اتصرف ، بكيت وحدى كثيرا ، ادعوا الله ان يفرجها في كل صلاة.
تزداد الأعباء وأختنق اكثر وأكثر ، مدخراتى البنكية تتناقص ، قمت ببيع أشياء كثيرة من المنزل وباعت زوجتى كل ما تملك من ذهب وحمدا لله ان منزلنا ملكنا ، والا كنا طردنا منذ زمن ، وجاء يوم الفراق ، قررت ان أبيع ساعتى ، رفيقة عمرى وحياتى ، مثلما بعت أشياء أخرى كثيرة ، لعلها ليست قيمة وثمينه كالسابق ، لعل لا أحد يتذكر أصلا هذه الماركة، ولكن ثمنها الزهيد يساعد ولو قليلا.
مشيت بخطوات متثاقله ، أقدم رجلا وأؤخر الثانية ، وقفت أمام معرض الساعات طويلا بعيدا عن البائع أتأملها ، أودعها ، حتى ذهبت له لكى لا يشكك في أمرى ، سألته أن كان يشترى هذا النوع من الساعات ، نهرني وقال : أذهب “الله يسهل عليك “.
دمعت عيناي رغما عنى ، كم من السهل ان يهين انسان انسان، حتى وجدت سيده طيبة صرخت في البائع: “انه ليس شحاذا لكى تعامله بهذه الطريقة ، وحتى ان كان كذلك فليس لك الحق التحدث مع أى انسان بالطريقة الفجة تلك الرجل يسألك ببساطة أتشترى الساعه قل له لا وأنتهى الأمر :.
ابتسمت وقالت انا اشتريها ، أخرجت نقودا دون ان تعدها واعطتها لي ، هممت بخلع الساعة وجدتها ترفض وتقول انها هديتي لك، لم اوافق، أصرت وتركتنى وذهبت ، فرحت كثيرا كثيرا ، ولكنى لا أخفى عنكم سرا صعُبَت على نفسي ، وفى طريقي للمنزل وجدت مكالمه من طبيب زوجتي ، دق قلبي بسرعه ودعوت الله ان يكون خيرا، بشرني ان صديقا له من رجال الأعمال سمع منه عن حاله زوجتي وتبنى علاجها بالكامل على نفقته بالخارج.
سجدت لله شكرا في الشارع ، طلب ان يقابلني الآن حتى يتحدث معي عن التفاصيل ، ذهبت للعيادة وكان صديقه هذا هناك ، تحدثنا كثيرا وعرف منى عن شركتي تلك التي اتكبد خسارتها يوما بعد يوم ، طلب منى ان يشاركني فيها لأنه كان يعرفها قبل ان تدور عليها الدائرة ، وسيساعدني على تخطى خسارتي ، كم انت كريم يا لله .
عدت للمنزل حاملا لزوجتي حلواها المفضلة ابتسمت وعيناها تملؤها الحيوية ابتسامة غابت عنها مدة ، ضاحكة قالت: راض أنت عنى اليوم. قبلت جبينها قائلا راض أنا عنك طوال العمر وحتى يفنى العمر…..
اترك تعليقًا